إذا قاربنا نص الدستور الجديد من زاوية تنظيم السلط، نلاحظ أنه لازال بعيدًا عن تشخيص الانتماء إلى اختيار الملكية البرلمانية، لأن النص يمنح الملك سلطات واسعة للتدخل في رسم الاختيارات وتوجيه منحى الحياة السياسية وفق برامج وأولويات لم تنبع بالضرورة من صناديق الاقتراع.
وإذا قاربنا نص الدستور الجديد من زاوية الحقوق والحريات، فإننا نسجل، مع الذين دافعوا على التصويت بنعم، أن شق الحقوق في الدستور يبدو من الناحية الظاهرية متقدما وغنيا. ولكننا إذا تجاوزنا القراءة السطحية وحاولنا النفاذ إلى عمق النص، نكتشف أن الكثير من الحقوق التي جرى إيرادها في النص، لا يُحَوِّلُها فعل الإيراد في حد ذاته إلى حقوق "مضمونة" ومُؤَمَّنَةً ومحمية وناجزة وقابلة للاستعمال والتمتع بها من طرف الأفراد دون حواجز.
ولهذا، نجد أن الكثير من دساتير البلدان ذات الأنظمة الاستبدادية تتضمن استعراضًا وافيًا للحقوق والحريات دون أن يكون لذلك أثر ملموس في الواقع. فهذا الاستعراض لا يضمن وحده إعمال الحقوق التي يتم استعراضها. أحيانا، نوجد أمام دساتير تقدم إيحاءً بأنها تمنح المواطنين حقوقًا، ولكنها في الأصل لا تمنحهم كامل تلك الحقوق.
وبمعنى آخر، فإن ورود الحقوق والحريات في أي دستور من الدساتير، لا يُعتبر في حد ذاته ذا قيمة، إذا لم يُشفع ذلك على الأقل بأمرين أساسيين:
- الأول هو التنصيص في ذات الوقت على ضمانات تفعيل تلك الحقوق، حتى لا تظل مجرد متمنيات أو وعود، ليس لها أثر عميق على حياة الناس في الواقع الملموس.
- الثاني هو أن يتم إيراد الحقوق والحريات بصيغ واضحة ودقيقة ومُحَمَّلةٍ بالمعنى الكوني والمضمون "المتعارف عليه عالميا" لتلك الحقوق والحريات.
والضمانة الأولى والجوهرية للحقوق والحريات تتجلى في بنية الدستور نفسه، وفي هندسة تنظيم السلطات التي ينص عليها. يجب أن ننظر إلى الدستور كبنية وليس كمواد متفرقة نتناولها كلاً على حدة خارج الاحتفال بالعلاقة القائمة بينها وفلسفة الحكم النهائية التي تُفضي إليها. إن الدستور الواحد قد يأخذ بيد ما منحه بيد أخرى. إن أي دستور لا يستند في بنائه الإجمالي على قاعدة السيادة الشعبية ولا ينطلق منها لا يمكن أن يكون حاميا للحقوق والحريات. وإن أي دستور لا يكفل آليات التداول الحقيقي على السلطة ولا يسمح بالمحاسبة على ممارسة السلطة، ولا يقيم توازناً بين السلطات، ولا يعترف بإنسانية الحكام وإمكان صدور خطأ منهم وكيفيات تداركه، هو دستور عاجز عن الوفاء بشرط ضمان الحقوق والحريات، حتى وإن أتى على جردها وتعدادها في باب من أبوابه. فإذا كان الدستور مثلا لا يضمن استقلال القضاء، فإن هذا الأخير سيكون عاجزا عن تأمين الحماية للمتضررين من خرق الحقوق وتعويض الضرر المترتب عن ذلك. فإذا نزل الناس إلى الشارع للتظاهر السلمي، فتعرضوا للضرب والتعنيف، ولجأوا إلى القضاء لإنصافهم، فإن هذا الأخير لا يمكن له أن يؤدي وظيفة الإنصاف هذه، إذا كانت الهندسة المؤسسية والدستورية تجعله خاضعاً لتأثير وتوجيه وتدخل الذين أصدروا الأوامر بضرب وتعنيف المتظاهرين. لا يكفي هنا أن يتضمن النص الدستوري إشارة إلى اعتماد مبدأ استقلال القضاء، ولكن المطلوب هو أن يكون في النص ما يكفي من الأحكام المطابقة للمعايير الدولية للاستقلال المشار إليه، وأن يُوجد بالنص من الوسائل ما يكفي لتحصين القضاة ضد الضغط وإشعارهم بالأمان والاطمئنان إلى أن الأحكام الصادرة بمقتضى ما يمليه الضمير والقواعد الأصولية للمهنة لن تجر على مُصْدِرِهَا أية متاعب أو مشاكل من أطراف السلطة العامة الأخرى.
لا يمكن أن تُحاط الحقوق والحريات بالحماية اللازمة إلا إذا كان الدستور يستجيب بشكل كامل لمتطلبات القاعدة المنصوص عليها في المادة 21 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتي تقضي بأن "إرادة الشعب هي مناط سلطة الحكم"؛ أي أن طريق الناس إلى حماية حقوقهم وحرياتهم يمر عبر وصولهم إلى السلطة وممارستهم لهذه الأخيرة من خلال ممثليهم.
كما أن من ضمانات الحقوق والحريات أن يحظى الدستور نفسه، الذي أورد تلك الحقوق والحريات، بسمو على بقية القوانين وأن يمثل مرجعا أعلى ملزما لجميع السلطات، وألا يكون مثلا بمستطاع يد المشرع العادي أن تعبث بالأحكام الدستورية أو يجنح الماسكون بزمام السلطة التنفيذية إلى رفض الانصياع لتلك الأحكام. ولهذا تم ابتداع آليات المراقبة على دستورية القوانين.
ومن ضمانات الحقوق أيضاً أن يتم التنصيص على هذه الحقوق من خلال عبارات لا لبس فيها ولا إبهام، ومن خلال لغة لا تفتح الباب لإمكان التحلل من الحقوق. فكثيرا ما ترد بالنص الدستوري الواحد أحكام تهدم أساس الحقوق المنصوص عليها في أحكام أخرى، وكثيرا ما يتم إفساح المجال لتبديد جوهر حق من الحقوق بدعوى "تنظيم" ذلك الحق، وبحجة تحديد شروط وكيفيات ممارسته، فتُصطنع شروط مرهقة ومجحفة تجعل ممارسة الحق شاقة وغير متأتية لأغلب الأفراد. ولهذا، فإن القيود، التي يجب أن ترد على الحقوق الدستورية، يتعين ألا تتجاوز سقف القيود المقبولة في مجتمع ديمقراطي.
ومن ضمانات الحقوق أن يبلور الاستفتاء على دستور حاضن لهذه الحقوق ومؤسس للانتقال، وجود إرادة سياسية لاحترام الدستور وتسييده والارتكاز إليه في إنتاج المواقف والمسلكيات. وهذه الإرادة السياسية تتجلى من خلال قرائن خارجية عنوانها الاعتراف بكل الفرقاء وإشاعة جو من الانفتاح، وتقديم "عربون" على الاستعداد لتحمل "تبعات" الديمقراطية. الإرادة السياسية المطلوبة في مرحلة الانتقال تقوم، في نظرنا، على ذلك الشعور الذي يصبح سيد موقف الحاكم –سواء كان رئيس الدولة في نظام جمهوري أو رئيس حكومة في نظام ملكي- والمتمثل في حصول قناعة تامة بأن وجود هذا الحاكم ليس ضرورياً في كل الأوقات، وأن مصير البلد لا يرتبط بوجود الحاكم، وأنه مستعد لترك مكانه لحاكم آخر تفرزه صناديق الاقتراع، بلا عُقَدٍ وبمنتهى السلاسة والتسامح. إذا لم توجد هذه القناعة، فلا مجال للحديث عن قيام حالة انتقال فعلي.
وبالنسبة للمغرب، فلا يمكن أن نقرأ الحقوق الواردة في النص الجديد بمعزل عن دور الملكية الحاسم في رسم اتجاه سير المؤسسات. لقد تم التنصيص على آلية جديدة لمراقبة دستورية القوانين. ولكن الملك، الذي يتيح له الدستور التدخل في رسم التوجهات الإستراتيجية لسياسة الدولة، من جهة، والتدخل لطلب قراءة ثانية لما يصدر عن السلطة التشريعية من مشاريع أو مقترحات القوانين، من جهة أخرى، هو الذي يتحكم في تركيبة المحكمة الدستورية ويرأس المجلس الأعلى للسلطة القضائية، مما قد يجعل المُتَوَقَّعَ في مثل هذه الأحوال هو أن تؤول الأمور إلى تزكية القراءة الملكية للدستور. هذا فضلاً عن غموض وظيفة إصدار الملك لظهائر غير موقعة بالعطف باسم رئاسة المجلس العلمي الأعلى، وما يمكن أن ينجم عن ذلك من تأثير على تحديد دلالات الحقوق الواردة بالدستور. ثم إن رئاسة الملك للمجلس الأعلى للأمن لا تمنح الضمانات الكافية لإعمال الجزاء السياسي عن ممارسات أمنية ضارة بالحقوق. وإذا أضفنا إلى ذلك تواصل إشراف وزارة الداخلية على الانتخابات –وهو الأمر الذي لم يباشر الدستور الجديد وضع حد له- رغم الحصيلة السلبية لذلك الإشراف على الحقوق والحريات، يمنح الوزارة المذكورة إمكان ممارسة "الضبط الانتخابي" بالشكل الذي قد يضمن لها "حراسة" المؤسسة البرلمانية والحيلولة دون "اختراقها" من طرف أصحاب "الرؤوس الساخنة" المتشبثين بالدفع بإعمال الحقوق إلى المدى الأبعد والمتمسكين بإعمال الجزاءات اللازمة ضد منتهكي الحقوق.
إن أهم مكسب في مجال الحقوق والحريات كان يمكن أن ننسبه إلى الدستور الجديد هو الإقرار بسمو المواثيق الدولية، لأن ذلك كان سيعني التوفر على آلية دولية للحماية. ولكن المكسب ضاع في النهاية بسبب صياغة الفقرة المعنية التي أجهزت عليه وحوَّلته إلى عدم. جاء بديباجة الدستور إعلان عن الالتزام بـ"جعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة". لا شك أن هذا المقتضى من أغرب ما يمكن أن يُوجد في دستور معاصر. فكيف يتم السمو –الذي من المفروض أن يكون على القوانين الداخلية- في إطار القوانين الداخلية!؟ هذا معناه بكل بساطة أننا لسنا بصدد سمو، بل بصدد كلام مُلقى على عواهنه.
إن الحرص على ملاحقة الحقوق بتقييدات احترازية متتالية حتى لا يتجاوز تطبيقها المدى المسموح به واقعياً حتى الآن، هو الذي أوقع محرري النص الدستوري في هذا التناقض. وإذا كانت النشرة التعريفية بالمشروع الدستوري والتي نُشرت كملحق –بدون إشارة إلى المصدر- بالجرائد الوطنية، قد نصت في البند 11 على أخذ المشروع بـ"سمو المواثيق الدولية، كما صادق عليها المغرب، على التشريعات الوطنية"، فإن بيان المجلس العلمي الأعلى كان واضحا وصريحا حيث اعتبر بالعكس أن المشروع قد أقر قاعدة "سمو الإسلام على المواثيق الدولية".
قد يقول قائل إن المقصود بعبارة "في نطاق قوانين المملكة" هو أن عملية المصادقة هي التي يجب أن تتم وفق الشكليات المنصوص عليها في قوانين المملكة –وليس سمو المواثيق- وفي هذه الحالة لماذا تمت الإشارة كذلك إلى شرط أن يتم الأمر في نطاق "الهوية الوطنية الراسخة"؟ فهل معنى هذا أننا، بالإضافة إلى ضرورة البحث في مدى خضوع المواثيق لشكليات المصادقة المنصوص عليها في قوانيننا، يجب أن نبحث أيضاً في مدى خضوع المصادقة لـ"هويتنا الوطنية الراسخة"، أي أن نعيد النظر بشكل شامل في فعل المصادقة الذي تم في الماضي، وهذا غير مفهوم تماماً.
إن الحديث عن "سمو" المواثيق الدولية معناه وجود "تعارض" بينها وبين القوانين الداخلية، وأن الدستور يحسم مسألة التعارض هذه بواسطة الانتصار لتلك المواثيق في مواجهة القوانين الداخلية. أما الانتصار لهذه الأخيرة، فإن معناه سموها هي وليس سمو المواثيق. وهو عودة إلى نقطة البدء، بمعنى أن الدستور الجديد لم يأت بجديد على هذا المستوى.
وإذا عُدنا إلى الفصل 19 من الدستور، نجده ينص على ما يلي: "يتمتع الرجل والمرأة، على قدم المساواة، بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، الواردة في هذا الباب من الدستور، وفي مقتضياته الأخرى، وكذا في الاتفاقيات والمواثيق الدولية، كما صادق عليها المغرب، وكل ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها". يتأكد أن مسألة سمو المواثيق الدولية على القوانين الداخلية لا وجود لها. فأحكام تلك المواثيق يتعين أن تطابق قوانين المملكة، حتى يتم الاعتداد بها. والمساواة بين الرجل والمرأة –بالرغم من ورودها في النص الدستوري وفي الاتفاقيات والمواثيق الدولية- لا تقوم بالنسبة لأي وجه من الأوجه المدنية أو السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو البيئية، إلا إذا تبناها القانون الداخلي. بمعنى أن هذا الأخير يمكنه في أية لحظة أن ينتقص من مدى هذه المساواة أو أن يقضم منها، بدون أن يكون بذلك متعارضا مع الدستور. فيد المشرع العادي طولى في هذا المجال، والمساواة لا يُعمل بها إلا بتوفر ثلاثة شروط هي:
- مطابقتها للدستور.
- مطابقتها لثوابت المملكة.
- مطابقتها لقوانين المملكة.
بمعنى أن وجها من أوجه المساواة بين الرجل والمرأة، حتى وإن طابق أحكام الدستور وثوابت المملكة، فلا يُعمل به إذا لم يطابق قوانين المملكة. فواو العطف في الصياغة تفرض اجتماع الشروط الثلاثة. والنتيجة أن المساواة تبقى تحت رحمة المشرع العادي يصنع بها ما يشاء، ولم يقدم الدستور أي مكتسب جديد للمرأة بهذا الصدد. وسماح الدستور الجديد للمشرع العادي بتجزئة حقوق المرأة وممارسة الانتقاء فيها يجعله متناقضا مع ما نصت عليه ديباجة الدستور نفسها، حين أكدت على "حماية منظومتي حقوق الإنسان والقانون الدولي والإنساني والنهوض بهما، والإسهام في تطويرهما؛ مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق، وعدم قابليتها للتجزيء".
هذا فضلا على أن الكثير من المكتسبات التي وردت في مدونة الأسرة، كان ينبغي في نظرنا تحصينها بدسترتها، حتى تصبح مرجعا عاما لجميع المغاربة أيّا كانت ديانتهم، وحتى يلتزم المشرع العادي بعدم إصدار ما يخالفها من النصوص، كقيام الأسرة برعاية الزوجين معا، والحقوق والواجبات المتبادلة بين الزوجين، وحقوق الأطفال على أبويهم، وحق كل من الزوجين في طلب التطليق...
وهناك في الدستور الجديد العديد من الأمثلة على إيراد حقوق معينة، ثم السماح في ذات الوقت للمشرع العادي بإصدار ما شاء من "الضوابط" والقيود الواقعة عليها بدون أن يحدد الدستور مسبقا الاحترازات وحدود هامش التحرك المتروك للمشرع، أي دون تصنيف وتعيين جنس وطبيعة "القيود" الجائزة دستوريا (الفصل 24 ينص على حرية التنقل عبر التراب الوطني والاستقرار فيه، والخروج منه، والعودة إليه، مضمونة للجميع وفق القانون- الفصل 28 ينص على أن للجميع الحق في التعبير، ونشر الأخبار والأفكار والآراء، بكل حرية، ومن غير قيد (؟!) عدا ما ينص عليه القانون صراحة- الفصل 29 ينص على أن حريات الاجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي، وتأسيس الجمعيات، والانتماء النقابي والسياسي مضمونة، ويحدد القانون شروط ممارسة هذه الحريات – الفصل 108 ينص على أنه لا يُعزل قضاة الأحكام ولا يُنقلون إلا بمقتضى القانون...).
وأحيانًا نلاحظ أن الدستور الجديد أعفى نفسه من تطويق عنق الدولة بضمان حقوق معينة خوفا من تبعات ذلك، واختار الاكتفاء بالإشارة إلى أن ما يقع على عاتق الدولة هو فقط تعبئة كل الوسائل المتاحة لـ"تيسير أسباب" استفادة المواطنات والمواطنين على قدم المساواة من تلك الحقوق (انظر تفصيلها في الفصل 31).
نخلص، إذن، إلى أن الدستور الجديد نص على العديد من الحقوق، وتَمَلَّصَ من مسؤولية "ضمانها". فهي، والحالة هذه، "حقوق غير مضمونة"!
أسبوعية "الحياة الجديدة"