حتى قبل أن يتوجه الناس إلى صناديق الاقتراع، فإن نتيجة الاستفتاء معروفة سلفا. فأغلب المصوتين سيقولون "نعم"، للدستور الجديد. وذلك لسبب بسيط، وهو أن الذين رفضوا المشروع المعروض على الاستشارة الشعبية اختاروا المقاطعة كموقف سياسي للتعبير عن رفضهم للعبة سياسية يدرك الجميع، بما فيهم حتى المشاركين فيها، أن قواعدها ما زالت غير سليمة.
وخلال فترة الحملة الانتخابية القصيرة، لاحظ الجميع كيف أن قواعد اللعبة ما زالت لم تتغير، عندما لجأت السلطة وأحزابها إلى نفس الأساليب العتيقة لتعبئة الناس ليس من خلال الحملات الواعية وإنما من خلال التجييش والتمييع. وكيف تم استغلال الإعلام الرسمي، وانخراط جزء كبير من الإعلام الخاص، في فرض صوت واحد هو صوت المؤيدين للدستور الجديد، وذلك حتى قبل انطلاق الحملة الانتخابية. وكيف تمت ممارسة التعتيم من قبل هذا الإعلام على أصحاب الأصوات المعارضة للمشروع الجديد، فمثلا لم تتناول أي من وسائل الإعلام الرسمية المسيرات التي خرجت يوم الأحد 26 يونيو في أكثر من مدينة مغربية معارضة للدستور. وفي الوقت الذي فتح فيه الإعلام الرسمي لما يسمى بـ"الشباب الملكي" و"شباب 9 مارس" للتعبير عن آرائهم المؤيدة للمشروع المطروح على الاستفتاء، لم تتح الفرصة لشباب حركة 20 فبراير التي كانت وراء كل هذا الحراك السياسي الذي يعرفه المجتمع اليوم، للوصول إلى وسائل إعلام تمول من أموال دافعي الضرائب، لشرح أسباب اختيارهم المقاطعة. كما أن السلطة، وفي خرق سافر حتى لقوانينها التي وضعتها وما زالت سارية المفعول، استغلت الدين لأغراض سياسية محضة، عندما حولت منابر المساجد إلى قنوات دعائية لمشروعها. وهيجت "دراويش" الزوايا الذين تعطف عليها من أموال الشعب، للنزول إلى الشارع من اجل مباركة الدستور الجديد. ولن نتحدث عن الكثير من المضايقات وأحيانا الاستفزازات التي تعرض لها نشطاء أنصار المقاطعة عندما كانوا يقومون بدورهم في توعية الناس بصواب موقفهم.
علي أنوزلا
ثمة من أراد أن يحول لحظة الاستفتاء على الدستور، وهو تمرين عادي في الدول الديمقراطية، إلى "لحظة تاريخية" لإيهام الناس بأن المغرب مقبل على تحول كبير، مع أن كل المؤشرات التي طبعت فترة الحملة الانتخابية تدل على أن عقلية السلطة الحاكمة ما زالت هي نفسها لم تتغير. والأخطر من ذلك، هو أن هذه السلطة نفسها، بوعي منها أو بدون وعي، تريد أن تجعل من الاستفتاء حول وثيقة الدستور، استفتاء حول الملكية. من مع الملك ومن ضد الملك. فهذا ما رسخه الإعلام الرسمي في ذهن رجل الشارع العادي. أو على الأقل هذا هو الانطباع الذي تتركه الشعارات التي يرددها أصحابها وتعيد نقلها وسائل الإعلام الجماهيرية، من قبيل شعار "ملكنا واحد..هو محمد السادس". فهذا الشعار رفعه المغاربة في خمسينات القرن الماضي عندما أراد الاستعمار فرض محمد ابن عرفة ملكا على البلاد بدلا من محمد ابن يوسف. وفي ذلك الزمن كان طبيعيا أن يوصف أنصار أطروحة الاستعمار بالخونة، لكن أن يوصف اليوم مناضلون شرفاء اختاروا الوقوف في صف الشعب، بـ"الخونة"، فهذا تمييع للنقاش، وأكثر من ذلك دفع بالبلاد إلى حالة من الاصطفاف الخطير. ما بين "مبايعين" و"خونة".
المجتمعات المتنوعة تبنى على التوافقات. وإذا كان هناك اليوم من توافق يجب أن يبنى في هذه المرحلة التي يصفها البعض بالتاريخية، يجب على السلطة أن تتجاوز نظرتها القديمة التي كانت تحدد طرفي المعادلة في القصر وأحزاب ونقابات وزوايا القصر، للتجاوزها إلى الشارع الذي أصبح قوة سياسية حقيقية قائمة بذاتها، بل إنه يعتبر اليوم، في الحالة المغربية ونظيراتها العربية، أحد المحددات الأساسية في التعبير عن إرادة الشعوب ورسم مستقبلها. فرغم ما أنفقته السلطة من أموال على حملة الاستفتاء، إلا أن ذلك لم يغير أي شئ من طبيعة المعادلة القديمة. فالأحزاب والنقابات وحتى الزوايا التي تقف اليوم إلى جانب السلطة، هي نفسها ذات الحساسيات التي لم تخف في يوم من الأيام ولائها لنفس السلطة. ومعارضو الدستور هم أيضا نفس الأحزاب والتيارات التي اختارت المعارضة كخط سياسية لا تحيد عنه ما لم تقم لدولة الحق والقانون قائمة في هذه البلاد.
---
حالة الاصطفاف الحالي التي يدفع الناس إليها دفعا، من قبل الدولة وأجهزتها وإعلامها وأحزابها، بل وحتى من قبل بعض معارضيها، مفزعة ولا تنبئ بالخير لمستقبل البلد. لأن تدافع الأفكار لا يقاس بتدافع المناكب في الشوارع والأزقة، وإنما فيما تحمله تلك الأفكار من قيم ومبادئ سيكون لها أثرها الإيجابي على حياة الناس ومعيشتهم اليومية.
والكل يعرف أن قول "نعم" مثل قول "لا" للدستور الجديد، بل حتى مقاطعة الاستفتاء عليه لن تغير من واقع الناس، هنا والآن، لذلك يجب ترك الحكم للمستقبل. والمستقبل القريب سيعلمنا من أخطأ ومن أصاب. تماما كما كشفت لنا تجارب الدساتير والاستحقاقات السابقة، كم أضعنا على بلدنا من فرص تاريخية.
---
وكيفما كانت نتيجة التصويت على مشروع الدستور، فإن الاختبار المقبل لما يسميه البعض بـ"حالة الاستثناء المغربية"، سيقع على عاتق السلطة التي سيكون عليها أن تفتح صدرها أكثر لمعارضيها لمواصلة إصرارهم على النزول إلى الشارع، حتى بعد التصويت على الدستور، لرفع مطالبهم الإصلاحية، خاصة عندما يكون لهذه المطالب ما يبررها في الواقع المغربي.